بحثاً عن غاز الطهي.. المواطن ضحية "غياب عدالة التوزيع" والاقتصاد تعترف بـ "ضعف الرقابة"
غزة - خاص بي دي ان - ترنيم خاطر
تزداد معاناة سكان قطاع غزة يومًا بعد يوم في ظل حرب الإبادة الجماعية المتواصلة منذ السابع من أكتوبر، فإلى جانب معاناتهم من القتل الجماعي، والنزوح القسري والسكن بالخيام، وشحّ الماء والمواد الغذائية وارتفاع أسعارهما، يتزايد معها شكواهم من عدم تمكنهم من توفير غاز الطهي، الأمر الذي يضطرهم إلى تحمل حرارة النار والحطب التي يشعلونها بهدف الطهي أو شراءه من السوق السوداء بأسعار باهظة، وسط تأكيدات بعشوائية وضبابية التعاطي مع الملف، والتي تسببت في زيادة حدة الأزمة الإنسانية، والمزيد من الفوضى، وتوزيع غير عادل حرم بعضهم من الحصول عليه.
تقول إلهام جبر النازحة وعائلتها المكونة من 7 أفراد من حي تل السلطان في مدينة رفح جنوب قطاع غزة إلى مدينة دير البلح: "منذ أكثر من شهر ونصف سجلت للحصول على الغاز، ولكني حتى اللحظة لم أحصل على كيلو واحد، واضطر مع كل كوب شاي، أو تسخين كسرة خبز يابسة إلى اشعال الحطب، الذي ارتفعت أسعاره ليصبح سعر كيلو واحد 4 شيكل (ما يعادل 1 دولار)، وتحمل أعباء الوقوف أمام النار لساعات مع ارتفاع درجات الحرارة في الصيف، واستنشاق الدخان والغازات السامة، والإصابة بالأمراض التنفسية".
"وفي محاولة أخرى عاودت التسجيل في أحد الروابط التي تم نشرها على الإنترنت، ولكن دون جدوى، حتى فوجئنا بقيام أشخاص - لا نعلم لمن يتبعون - بتوزيع أنابيب الغاز على بعض النازحين في الخيام بعد منتصف الليل، الأمر الذي أدى إلى اعتراض الأخرين وارتفاع أصواتهم رغم خطورة الوضع الأمني ليلاً، خاصة مع طائرات كواد كارتر التي بدأت تقترب من مصدر الصوت ما دفع الجميع إلى التزام الصمت".
واستهجنت جبر غياب عدالة التوزيع سواء فيما يتعلق بالغاز أو المساعدات الإنسانية، وضعف الدور الرقابي لمنع التلاعب والاستغلال، خاصة في ظل هذه الظروف القاسية التي اشترك فيها الجميع.
ولم تختلف كثيراً تفاصيل الحكاية لدى أبو محمد سعد، النازح من مدينة غزة، ورب أسرة مكونة من 9 أفراد، قائلاً:" نزحت 5 مرات وأقيم في خيمة بمحافظة خان يونس، ولا يوجد لديّ غاز منذ 25 يوماً، وفي كل يوم أستيقظ مبكراً لتبدأ مرحلة البحث عن الغاز، فالبعض تمكن من تعبئة الغاز بعد تسجيله لدى أحد المخاتير، والبعض الأخر لدى الموزعين، أو من خلال الرابط، أو أحد الأقارب، فأنا فعلياً لا أعرف من هي الجهة المخولة بالتسجيل".
"والله بحزن على زوجتي وأولادي، الذين يقضون يومهم أمام النار للطهي، وجمع الكرتون من الشوارع، ما بتصور في حد بالكون ممكن يتحمل هيك حياة وهيك ظروف، احنا بنموت على البطيء، وكمان نزيد تعب بعضنا وما نوفر الغاز للمحتاجين، أنا مُدرك أن الاحتلال لا يسمح بإدخال كميات كافية من الغاز، ومع ذلك عندما يتوفر لا يتم توزعه بعدالة على الجميع".
وقال بقهر:" ياريت وزارة الاقتصاد تقوم بدورها، وما تعطي مجال للأشخاص سواء الموزعين، أو اللجان، أو المخاتير، أو المعارف، وما تترك المواطن يتعرض للاستغلال بهذا الشكل"، مشيراً بغصة، لي أصدقاء اضطروا لشراء أنبوبة غاز (12 كيلو) بمبلغ (520 شيكل ما يعادل 150 دولار) في حين أنها بالوضع الطبيعي لا يتجاوز سعرها (70) شيكل، وهو مبلغ كبير جداً في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها"، متسائلاً: ماهي معايير توزيع الغاز، وكيفية تعبئته، ولماذا لا توجد رقابة فاعلة وإجراءات عقابية بحق هؤلاء؟.
حاولت معدة التقرير الإجابة على تساؤل أبو محمد، وغيرها من الشكاوى التي يعبر عنها المواطنين في الشارع وعلى منصات التواصل الاجتماعي من خلال التوجه إلى وزارة الاقتصاد لكن نظراً لحالة الطوارئ، تمكنا بصعوبة التواصل مع د. أسامة نوفل مدير عام السياسيات والتخطيط بوزارة الاقتصاد، الذي استشهد بعد أيام في مجزرة المواصي بخان يونس، ليؤكد أن أزمة غاز الطهي قديمة وجديدة، فمنذ بداية الحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، منع الاحتلال دخول الغاز، وتم الاتفاق خلال الهدنة في شهر نوفمبر الماضي على إدخال الغاز إلا أن الاحتلال لا يسمح سوى بإدخال أقل من 100 طن 4 مرات أسبوعياً، في حين أن احتياج القطاع يتجاوز 300 طن يومياً، ثم قام الاحتلال بغلق المعابر ومنع دخول الغاز والمساعدات الإنسانية، ومن ثم أعاد ادخال المساعدات للمحافظات الجنوبية فقط كل ذلك أدى إلى تراكم الأزمة.
وتابع: "كما أن نزوح المواطنين من مدينة غزة وشمالها إلى الجنوب، أدى إلى عدم القدرة على السيطرة على الوضع، فقبل الاجتياح البري لرفح كان الجزء الأكبر من الغاز يخصص لها، والآن التركيز على الوسطى وخان يونس، إضافة إلى أن جزء كبير من الغاز يتم توزيعه للمؤسسات الإغاثية التي تدعم عمل التكيات الخيرية، وجزء أخر للسائقين وهو ما يؤثر على الاستهلاك المحلي للمواطنين، وكل ذلك خلق إشكالية كبيرة في توزيع الغاز.
ونوه نوفل إلى أن هناك صعوبة في متابعة عمل الطواقم بوزارة الاقتصاد، خوفاً من الاستهداف، حيث استهدف الاحتلال ولعدة مرات الموظفين، والمراقبين، كما أن أعداد الموظفين غير كافِ للمتابعة والرقابة.
وبين أنه تم تشكيل لجنة مكونة من وزارتي الاقتصاد والحكم المحلي، البلديات، ولجان الأحياء لإدارة ملف الغاز، حيث يتم توزيع الغاز من خلال الموزعين اللذين تم اعتمادهم من قبل اللجنة، إلا أنه للأسف هناك مشكلة حقيقية ظهرت بشكل واضح فيما يخص الموزعين، في ظل غياب الرقابة، وعدم قدرة مندوبي الوزارة الدوام داخل نقاط التوزيع 24 ساعة، وعدم قدرة مباحث التموين على المتابعة ما أدى إلى بيع الغاز في السوق السوداء.
ويؤكد نوفل أن هناك إشكالية في إدارة أزمة الغاز، وهذا يحتاج إلى تضافر الجهود ما بين وزارة الاقتصاد، وهيئة البترول، واللجان المحلية، والموزعين، وأهمية أن يكون هناك رقابة مجتمعية بما يضمن توزيع الغاز بشكل أفضل، منوهاً إلى أنه لم يتم تفعيل رابط التسجيل الخاص بالوزارة حتى الآن.
وحول دور اللجان المحلية، أكد زيدان شاهين مسؤول ملف الغاز سابقاً في المحافظة الوسطى، أن حجم التحديات كبير في ظل الظروف الصعبة التي نعيشها، ومن باب محاولة إدارة أزمة الغاز، تم إلغاء النظام الورقي القديم، وإعداد نظام محوسب في دير البلح كمرحلة تجريبية، وبعدما أثبت نجاحه سيتم تعميمه على المحافظة الوسطى، ويقوم النظام على جمع البيانات حول الأسر وعدد أسطوانات الغاز في كل حي بالتعاون مع لجان الأحياء، وتفعيل رابط إلكتروني يتيح للمواطنين تسجيل معلوماتهم بشكل مباشر، وفلترة الأسماء لضمان عدم تكرارها، على أن تكون الأولوية لتاريخ التسجيل، وعدد الأفراد، وعند وقت التوزيع، يتم اختيار العدد المطلوب من أسطوانات الغاز وتُطبع الكشوفات وتوزع على الموزعين دون أي تدخل يدوي، كما تم إضافة رابط لتقديم الشكاوى والاستعلام.
وبين أن التسجيل الإلكتروني شهد إقبالاً كبيراً حيث وصل عدد المسجلين 98.529 طلب، ووجد أن عدداً كبيراً من الطلبات مسجلة بالفعل، ليتم تأكيد 69.633 مواطناً للاستفادة من الغاز، وتم إعطاء كل موزع حصة حسب عدد الأفراد المسجلين لديه، حيث أتاح هذا النظام أن يختار المواطن الموزع، وبذلك أصبح الموزع حريصاً على أن يكسب رضا المواطن، وبذلك يحصل كل موزع على أسطوانات لا يقل عددها عن 100 ولا يزيد عن 300، حيث بلغ عدد المواطنين اللذين تمت تعبئة الغاز لهم 51.305 خلال الفترة 7/6/2024 وحتى 10/7/2024.
وتابع:" ورغم كافة الجهود المبذولة إلا أن هناك الكثير من المشكلات التي واجهتنا في هذا الملف منها أن البرنامج لا يمتلك قاعد بأسماء المسافرين أو الشهداء، إضافة إلى وجود بعض التجاوزات من قبل بعض الموزعين من خلال تغيير الأسماء والتلاعب بها، أو عدم التحقق من هوية المستلم، ونشر بعض الجهات المجهولة روابط مضللة للتسجيل، ووجود بعض التجاوزات السلوكية لدى بعض الأشخاص ذوي العلاقة.
وحول الدور الرقابي الحكومي، نوه شاهين إلى أن الجهات المكلفة بالرقابة ومتابعة ملف الغاز هي وزارة الاقتصاد الوطني ومباحث التموين، وهيئة البترول إلا أن دورهم خلال الحرب الإسرائيلية "مغيب"، وفي بعض الأحيان تسعى لتوزيع الغاز، وفق آليات لا يوجد بها عدالة ونزاهة، ما أدى إلى تفاقم الأزمة". على حد تعبيره.
أحد أصحاب نقاط تعبئة الغاز (رفض ذكر اسمه)، أكد أن هناك نقصاً كبيراً في غاز الطهي، وما هو مُتاح لا يلبي احتياجات المواطنين، ومع تزايد الطلب على الغاز يقوم بعض الموزعين برفع الأسعار، الأمر الذي يزيد من معاناة المواطنين، في ظل ارتفاع الأسعار لجميع الاحتياجات الأساسية.
وبين أنه في كثيراً من الأحيان يقوم بعض الموزعين باستغلال عدم امتلاك بعض النازحين لثمن تعبئة أنبوبة الغاز، أو عدم توفره الأنبوبة لديهم بسبب النزوح المتكرر وتعرض منازلهم للدمار، أو عدم توفر إثبات شخصية، وبيعها في السوق السوداء بمبالغ خيالية تفوق سعرها الحقيقي، أو التلاعب بوزن الغاز في الأنبوبة.
ويتعارض ذلك مع ما نص عليه قانون حماية المستهلك الفلسطيني لسنة 2005، والذي أكد على ضرورة حماية وضمان حقوق المستهلك بما يكفل له عدم التعرض لأي غبن أو خسائر اقتصادية، وتوفير السلع والخدمات ومنع الاستغلال والتلاعب في الأسعار، كما يحظر على كل مزودي الخدمات، بيع سلعة أو تقديم خدمة بسعر أو بربح يزيد عن السعر المعلن عنه.
وهو ما أكده د. صلاح عبد العاطي الخبير الحقوقي، بضرورة معالجة ظواهر الاحتكار والاستغلال وارتفاع الأسعار من قبل الموزعين والتجار، وهذا يتطلب وضع آليات محددة لمنع الاحتكار، مع ضرورة التعميم على الموزعين بضرورة الالتزام بالأسعار والأوزان، وإلا سنكون أمام مظاهر باتت تشكل عبئاً على المواطنين، حيث نشهد ارتفاع غير مسبوق لأسعار الغاز والسلع الأساسية، وهذا يتطلب رقابة حكومية، وحماية من قبل الفرق الشعبية.
ودعا إلى ضرورة ضمان التوزيع العادل لغاز الطهي، واتباع آليات تحافظ على كرامة المواطنين، دون المساس بها من خلال الوقوف في طوابير طويلة، وتحت الشمس الحارقة، والتجمهر وتعريضهم للخطر، منوهاً إلى الاحتلال أساس الأزمة بمنعه ادخال الغاز والوقود بمختلف أنواعه إلى شمال غزة، فيما يسمح بدخوله بكميات لا تكفي احتياجات المواطنين في وسط القطاع وجنوبه، في انتهاك واضح لجميع القوانين الدولية.
وأتفق د. سمير أبو مدللة الخبير الاقتصادي أن تفاقم أزمة الغاز ساهم في جزء منها "تجار الحروب"، حيث يقوم بعض الأشخاص بشراء كميات كبيرة من الغاز وبالتعاون مع المشرفين على تواجده، وبيعه بأسعار مرتفعة جداً في السوق السوداء، في ظل عدم وجود قدرة شرائية لدى المواطن مما يضطره إلى شراء البدائل كالفحم والحطب، ولم تكن أوفر حظاً حيث شهدت ارتفاعاً عدا عن عواقبها الصحية.
وقدم مجموعة من التوصيات لمعالجة أزمة غاز الطهي في قطاع غزة، أبرزها أن يكون هناك رقابة حكومية على كميات الغاز التي يسمح بإدخالها إلى القطاع وكيفية توزيعها، كما يقع على عاتق المواطن دوراً هام من خلال التكافل الاجتماعي، فليس من المعقول أن يكون لدى البعض فائض، وآخرون يعانون من غيابه، مع أهمية تحديد كميات الغاز المخصصة للسائقين على ألا يكون ذلك على حساب احتياجات المواطنين.
وأضافت معدة التقرير جملة من التوصيات من شأنها الحد من أزمة غاز الطهي في قطاع غزة:
1. الدعوة إلى الوقف الفوري لإطلاق النار وضمان حماية أكثر من مليوني مدني فلسطيني في غزة يعيشون تحت الاحتلال العسكري الإسرائيلي والإغلاق والحصار، وضمان دخول وتسليم كميات كافية من غاز الطهي والوقود دون أي عوائق، وذلك تلبية للاحتياجات الأكثر إلحاحاً للسكان المدنيين في قطاع غزة.
3- التأكيد على أن يتم تسليم غاز الطهي والوقود دون أي شروط، وألا يقتصر تسليمها على المحافظات الجنوبية من القطاع، بل يجب وصولها لشمال غزة، وأن يتم توزيعها بشكل عادل على جميع المواطنين.
4- ضرورة تفعيل رابط التسجيل الحكومي لغاز الطهي في أسرع وقت ممكن، وأن تتم متابعته من قبل الوزارات ذات العلاقة، مع ضرورة أن يتضمن مجال لشكاوى المواطنين.
4- الحرص على أن يكون هناك سجلات توزيع منظمة وموثقة ليس فيها أي تبديل أو تغير أو تحريف، والتأكد من قيام الموزعين بالتوزيع الكامل لكل الحصص المقررة له، مع أهمية القيام بزيارات مفاجئة لمواقع التوزيع، أو زيارات بيتية لمن حصلوا على غاز الطهي.
5- أن يتم التعامل مع مستلمي الغاز باحترام، وأن يتم إعلامهم بآليات استقبال الشكاوى، وكيفية التظلم.
6- القيام بإجراءات محاسبة حقيقية للمخالفين للأنظمة والإجراءات المعمول بها في تقديم الغاز للمستفيدين.
7- يجب ضمان حماية العاملين في تأمين وصول الغاز والوقود، والمساعدات الإنسانية بشكل عام، واحترام مبادئ الإنسانية والحياد وعدم التحيز ومبادئ العمل الإنساني التشغيلية.